السكان الأصليون للواحات، فلاحون بدون أرض و لا ماء !!

تشكل الواحات المغربية حوالي 15 في المائة من ساكنة المملكة (دون احتساب الرحل ) حسب البيانات الرسمية، وبمساحتها تقدر ب 226 ألف كيلومتر مربع ، و تاوي اكثر من تلاث أرباع الأجناس الحيوانية البرية المتبقية في المغرب ، و رغم ذلك لازال الكثيرون ينظرون اليها كمواقع جذب سياحية لاغير ،و كأنها ليست مناطق مأهولة و منتجة ، او كأنها مجرد جزء من التراث اللامادي التليد ،في حين أنها كمجتمعات محلية حية لها تنظيمها الاجتماعي (لجماعة او لقبيلة) الذي يميزها ،متفردة بعاداتها و تقاليدها العريقة و زاخرة بطقوسها الواقعية ،تضم ارثا غنيا من التراث الشفوي و الفني و الثقافي ، الى جانب كنوزها المعمارية الشامخة كالقصور والقصبات ،مميزة بطبيعتها المتنوعة من أشجار مثمرة و نخيل و زيتون، و معتمدة على منظومات من المعارف لتسيير شؤونها الخاصة بالأرض و الماء على الخصوص ،و كونها كذلك فهي لا تستحق ما تواجهه اليوم من اهمال و نسيان جراء تكالب الطبيعة و الانسان عليها .
* واحات المغرب تندثر ،المنظمات الدولية تدق ناقوس الخطر !!.
خلال الآونة الأخيرة تنامت العديد من التحذيرات من طرف المنظمات البيئية و المؤسسات العلمية المختصة بخصوص خطر اندثار واحات المغرب، و هي التي شكلت عبر عشرات القرون منارات للحياة و الامل في قلب الصحراء و السفوح الجنوبية لسلسلة جبال الاطلس الكبير .
و لم تكن صرخة العدد الأخير من مجلة “ناشيونال جيوغرافيك” (يونيه 2025 – بصيغتها الامريكية) بهذا الخصوص ، الا واحدة من مئات الصرخات التي ما فتئت تحذر من الخطر المحدق بالمنظومات البيئية لدول شمال افريقيا بالخصوص جراء تنامي اندثار الواحات و بدء تحولها الى صحاري جرداء او كثل اسمنتية ميتة ،مؤكدة أن تغير المناخ إلى جانب الهجرة وفقدان المعارف التقليدية، يدفع هذه الأنظمة البيئية الفريدة نحو الزوال،الشيء الذي دفع العديد من المواقع الإعلامية العالمية الى تسليط الضوء على الموضوع باهتمام و دقة بالغين ،حيث أكد موقع قناة سكاي نيوز الدولية في ربورتاج مصور له بأن واحات المغرب ك “كنز طبيعي بات يدفع ضريبة التغير المناخي نيابة عن المجتمعات الصناعية الكبرى” ،في حين اعتبرت قناة فرانس-24 الفرنسية أن ” واحات جنوب المغرب الساحرة مهددة بالزوال في اجل قريب “،و حتى منظمة اليونسكو في رسالتها السنوية الأخيرة اطلقت اسم “السراب ” على واحات المغرب ،معللة وصفها هذا باحترار المناخ الواحي و ندرة المياه و تراجع المجال الأخضر بشكل مخيف خلال العقدين الأخيرين ،في غياب أية برامج رسمية لمواجهة ذلك .
• فلاحو الواحات يستغيتون : ” نضب الماء فانهار كل شيء ” .
نتيجة لارتفاع درجات الحرارة المتراكم على كوكب الأرض منذ عقود خلت ،بفعل ارتفاع وتيرة التلوث الصناعي و التكنولوجي بالمدن و الحواضر الكبرى التي تصنع و تستهلك و تتباهى بعلو عماراتها و تمدد عمرانها على حساب القرى و البوادي و الغابات ، فيما يتسابق أباطرتها لمراكمة الأموال و الاعمال و المضاربة في البورصات و أسواق المال ،و التشجيع على انفاذ موارد الكوكب ،و الزحف على الأخضر و اليابس ، باتت الواحات أول من يؤدي ضريبة الهمجية الرأسمالية نيابة عن البشرية جمعاء ،كيف لا و هي التي نضب فيها الماء و طمرت الخطارات و جفت السواقي و ضاقت الأرض و أصابها الانجراف ،و تناقص المجال الاخضر ، و تهدمت القصور و القصبات ،و تناسلت البنايات الاسمنتية المزركشة ، وتآكل التنوع البيولوجي و انقراض العديد من الحيوانات البرية ،حتى كاد من تبقى من أهل الواحات أن ينسوا الجزء الأكبر من ثقافتهم و حضارتهم الواحية المرتبطة أساسا بالأرض و الماء.
و كأننا أمام معادلة جديدة تساوي ما يلي ” كل آلة او مركبة تصنع بالحواضر الكبرى تساوي فقدان الاف الغالونات من المياه بالقرى و الواحات ، و فقدان العشرات من أشجار النخيل ، و انقراض العديد من الحيوانات البرية ،او غير ذلك من المأسي و الآفات التي لا حصر لها ” .
و هذه كلها سلسلة أسباب أدت في نهاية المطاف الى تدهور الظروف المعيشية لسكان الواحات ،حتى صارت إمكانية الاستمرار في العيش هناك شبه مستحيلة ، و باتت الهجرة منها بشكل فردي و جماعي مصيرا محتوما لا خيار فيه، لدرجة أنه قد يأتي يوم تتحول فيه الواحات الى مدن أشباح ،خصوصا اذا لم تتخذ أية إجراءات في هذا الاتجاه .
بإقليم ورزازات مثلا ،حيث تتناسل الواحات طولا و عرضا على جوانب الاودية الموسمية و الدائمة ، و تشكل حزاما من الأراضي المنخفضة (Pays Bas) لمركزها الحضري ، مستفيدة من قرب الفرشة المائية بها لتنبت نخيلا و زيتونا و ورودا و أشجارا مثمرة و حتى حبوبا و خضارا و فواكه عديدة ، هي اليوم تعاني أكثر من غيرها من ندرة قاسية للمياه ،ليس فقط بسبب جفاف السماء و قلة التساقطات و لكن من استنفاذ مخزونها المائي الاستراتيجي (تحت الأرض ) من طرف المستثمرين الجدد بالأراضي السلالية و أراضي الجموع بمحيط الواحات او ما سمي بالاراضي الجديدة ،حتى صار الحصول على البترول وسط الواحات احيانا أرخص من الحصول على مياه الشرب ، أما مياه السقي فقد صارت حلما بعيد المنال،و بات امنها المائي في كف عفريت .
• صيرورة فقدان الأرض بعد فقدان الماء … اين المدير الفلاحي ؟؟!!!
ساكنة الواحات و بفعل ندرة الماء و تراجع المساحات الممكن زراعتها و ارتفاع كلفة الإنتاج الفلاحي تخلى الجزء الأكبر منهم عن ممارسة الزراعة أصلا ، و اكتفوا أول الامر بالتحصيل السنوي لإنتاج أشجار الزيتون و النخيل و بعض الأشجار المثمرة ،لكن مع توالي السنوات انكفت الأشجار بدورها و توقفت عن الإنتاج ، و تراجعت معها أعداد الماشية و الدواجن الى مستويات دنيا لم يسبق لها مثيل ،حتى صار البحث عن مربيي الأغنــام و الابقار و الدواجن داخل دوار ما من دواوير الواحة أشبه بالبحث عن ابرة داخل كومة كبيرة من القش ، نتيجة لكل ذلك تحول الفلاحون الواحيون تدريجيا الى ممارسة أنشطة مهنية و خدماتية أخرى خارج معارفهم التي جبلوا عليها منذ الصغر ،في حين استنفذ اخرون كل مدخراتهم فقرروا بيع ممتلكاتهم الفلاحية من أجل الاستمرار في العيش داخل الواحة ،هكذا تحولوا من فلاحين مستقلين الى مجرد أجراء و مياومين لدى أصحاب الضيعات الكبرى بالأراضي الجديدة ،و ما تبقى منهم فرضت عليهم الهجرة القسرية نحو المدن لإعالة أسرهم و أبنائهم .
اذن بعد فقدان الماء – و هو أصل الحياة بالواحات – ،جاء الدور على الأراضي الفلاحية و الحقول ، ابتدأ الامر بالتخلي التدريجي عن ممارسة الزراعة بالحقول الاصلية وسط الواحات ،فيبس الزرع و تهاوت الأشجار و قطعت أوصالها لتتحول الى فحم خشبي ،فتوسعت المساحات العارية و بيعت معظمها بغرض البناء ، و هدمت المنازل الطينية و ماتبقى من قصور و قصبات ، وبنيت مكانها المنازل الاسمنتية المزركشة ،ففقدت الواحات روحها و بريقها و هاهي تتحول شيئا فشيئا الى ثكنات سكنية مشوهة و غير مأهولة .
الوضع اليوم بالواحات أشبه بلحظات ما قبل الكارثة ،و سكانها الأصليون باتوا معدودين على رؤوس الأصابع ،و نسبة من يملكون منهم أرضا فلاحية صالحة و قادرة على اعالة أسرة لا تتجاوز الواحد من العشرة بكل دوار (1/10 )؛، في المقابل ظهرت فئة جديدة من المحظوظين بهوامش الواحات – اغلبهم غرباء عن الواحات و ليسوا فلاحين – ،تمكنوا من الحصول على آلاف الهكتارات ،فحولوها الى ضيعات عصرية كبيرة و مسيجة،باشرت إنتاج منتجات فلاحية غريبة عن مناخ المنطقة و عن ترابها كالدلاح و الافوكادو و الفستق و حتى الحوامض و ربما الأرز مستقبلا … من يدري ؟؟ ، مستهلكة للماء بشكل مهول و مخيف من الباطن البعيد للفرشة الماءية للواحات ،هدفها الأول و الاخير التصدير و مراكمة العملة السهلة ،ضاربة بعرض الحائط كل التوصيات الرسمية و الأكاديمية بهذا الخصوص، و حتى تنمية سلاسل وزارة الفلاحة المزعومة لا تعنيها في شيء .
و بدل ان تشرف وزارة ” المخطط/الجيل الاخضر ” على تنفيذ اصلاح زراعي شامل يروم وقف الكارثة البيئية التي تترصد بفلاحي الواحات و تفتك بهم ،و تضمن استقرارهم بمواطنهم الأصلية، و تحول دون هجرتهم نحو المدن و الحواضر الكبرى ،بتوزيع عادل للأراضي الجديدة عليهم و تشجيعهم على العمل الجماعي و احياء تقاليد التويزة و المعروف و اكوك ، و انعاش الخطارات ،و تأسيس التعاونيات الزراعية التضامنية بينهم ،لضمان استفادتهم من مساعدات البرامج الخضراء ،و مساعدتهم على التسويق الواسع لمنتجاتهم الفلاحية الأصيلة ،بدل ذلك تم استحداث فئة رأسمالية جديدة و هجينة ،ليست لها ثقافة زراعية و لا تقاليد واحية و لا قيم تضامنية ،و لا يهمها حسن التعامل مع الموارد الطبيعية المائية ، وظفت نفوذها للحصول على الأرض و وظفت مواردها المالية لتجهيز تلك الاراضي بالآبار الضخمة لضخ كل ما تراكم تحت الأرض من مياه ،تاركة الفلاح الواحي الصغير يعاني الامرين للحصول حتى على قطرة ماء للشرب ان استطاع اليها سبيلا .
هذا الترابط الوثيق بين الارض و الماء كان ثابثا رئيسيا في عرف اهل الواحات ،فاهل واحة سكورة مثلا كان معروفا عنهم توزيع حصص الماء على الفلاحين بمنطق حجم و مساحة الارض التي يملكها الفلاح ،حيث كانت حصص الماء مقسمة الى عدد من الساعات (ثلاث ساعات = ربع حصة / ست ساعات = نصف حصة ، ثم الفردية= 12 ساعة و النوبة = 24 ساعة …الخ )،و لم يكن بإمكان أي كان الحصول على حصص من الماء تفوق حجم الارض التي يملكها ،و العبرة من ذلك كانت منطقية للغاية و هي منع الاحتكار و المضاربة بالمصدر الرئيسي للعيش بالواحات ،لكن مع الواقع الجديد انقلب كل شيء رأسا على عقب ،و هكذا صار فلاحو الواحات بلا أرض و لا ماء ،و باتت الساكنة الأصلية مهددة حتى في وجودها بمواطنها الحقيقية ،و الحال ان شعار “نزرع الارض فتزرعنا الارض ” الذي رفعه “فلاحو البرازيل بدون أرض” منذ عقود خلت لازال يحتفظ براهنيته الى اليوم ، بمعنى اخر فان مصير واحات المغرب اليوم مرتبط بشكل وطيد بمصير فلاحيها و مدى استرجاعهم لحقهم التاريخي و المشروع في الارض و الماء ، و غير ذلك يبقى مجرد أحلام و اوهام .
بقلم : رشيد سليمان